دراسات نقدية
د. جوزف لبُّس*: أن نقرأ لنحيا (لماذا، ماذا، كيف، متى وأين نقرأ؟)
«عشتُ قليلاً، ولكنّي قرأتُ كثيراً. أعني، لأنّي قرأتُ كثيراً حدثتْ لي أشياء كثيرة»
خورخي لويس بورخيس[1]
في البدء وعلى الدوام
إنّ أولى آيات إنجيل يوحنّا: «في البدء كان الكلمة والكلمةُ كان لدى الله والكلمة هو الله»[2]؛ وأولى آيات القرآن الكريم هي: ﴿إقرأ باسم ربّك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم﴾[3].
الكلمة - كالموسيقى التي قرظها جبران خليل جبران- تجتاز معنا مراحل الحياة، وتشاطرنا الأفراح والأتراح. أن تقرأ يعني أن تفكّر مع الآخر، بواسطة الآخر.
تلفت انتباهي مراراً عناوين بعض كتب القراءة الفرنسيّة؛ عناوين جذّابة لها مدلولاتُها المضيئة: فمن Le goût de la lecture إلى Plaisir de lire إلى Joie de lire إلى Lecture, mon amie... في حين أنّ عناوين القراءة العربيّة جافّة لا رونق فيها ولا جمال: فمن «نصوص مختارة» إلى «المفيد في القراءة والأدب» إلى «أيّام وجنى»... وإذا كان العنوان ثريّا النصّ ولافتةً ذات سهم للوصول إلى الهدف، فإنّ عناوين القراءة العربيّة تشير إلى أنّ العرب حتّى اليوم لا يقرأون، ولا يتّخذون الكتاب صديقاً، ولا يُعيرون القراءة اهتماماً (70 مليون منهم أمّيّون لا يقرأون ولا يكتبون). وإنّ عشّاقَ الكتب أمثال الجاحظ القائل: «الكتاب وعاء مُلئ علماً وظَرْف حُشي ظُرْفاً»[4]، وأمثال المتنبّي القائل: «وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ»[5] لَنادرون.
ولو أردنا أن نحصر اهتمامنا بالكتب المتداولة بين تلامذتنا في المدارس لشعرنا بالأسى. فكتب المطالعة لديهم نوعان:
1- كتب مطالعة موجّهة أي مأخوذة من مكتبة المدرسة؛ وهذه الكتب، في مجملها، محدودة المواضيع، وتدور حول القرية اللبنانيّة لكتّاب يتكرّرون من عامٍ إلى عام. وما أحوجَنا إلى اكتشاف عالمٍ آخر أوسع من القرية والضيعة والحيّ، وإلى اكتشاف أدباءَ جدد وأدبٍ جديد! كُتبُ المطالعة الموجّهة المتشابهة موضوعاً وأسلوباً تنفّر الطلبة من المطالعة الموجّهة ومن الكتب المقدّمة لهم وخصوصاً إذا تلاها اختبار.
2- كتب مطالعة حرّة أي متروكة لحرّية الطلبة يقرأون منها ما يشاؤون، وهي خارجة عن رقابة المدرسة المسوّرة. إنّ المطالعة الحرّة تسمح لمتعة القراءة بأن تنفذ إلى النشء الجديد، وتصلهم بينابيع الثقافة الأصيلة، وتزيد كسبهم اللغويّ والفكريّ، وتنمّي خبراتِهم، وتُطلعهم على كلّ جديد. وحتّى تنمو هذه العادة الطيّبة لا بدّ من وجود مكتبة عامّة غنيّة ومتنوّعة. وهذا أمرٌ نادر أيضاً في بلادنا.
إنّ أهمّ درسٍ يتلقّاه التلميذ في المدرسة ليس في تلك المعلومات التي ستُنسى بعد حين، ولكنّه في غرس مَلَكة القراءة التي ستلازمه في كلّ حين. لا خير في أرقى المدارس والجامعات إذا خرج منها الطلاّب يلعنون كتبهم، ويختمون بالشمع الأحمر على رؤوسهم، ولكن مَن ينشأ فيه حبّ القراءة، تنشأ في نفسه جامعة كبرى تزوّده بالمعارف المتجدّدة طوال حياته. ذلك هو واجب المدرسة الأوّل: أن تعلّمنا حبّ القراءة[6]. والأستاذ القدير هو من يغرس في نفوس تلامذته تذوّق الكتب، والنزوع إلى استطلاع ما فيها، فيدلّهم على منهج يسلكونه ليبحثوا عمّا يرغبون فيه.
والكتب، كما يقول العقّاد[7]، كالناس... منهم السيّد الوقور، والجميل الرائع، والوضيع الخليع، والغبيّ المغفّل... والدنيا تتّسع لكلّ هؤلاء، ولن تكون المكتبة كاملةً حتّى تكون مثلاً كاملاً للدنيا، فيها الرديف وفيها النقيض.
لماذا نقرأ؟
أمّا لماذا نقرأ؟ فلأغراضٍ شتّى، منها أن نفهم العالم: فمَن سبقنا ومَن عاصرنا جرّبوا الحياة، واطّلعوا على آراء مَن سبقهم، وبحثوا وفكّروا وأودعوا كلّ ذلك بطونَ كتبهم، وأوضحوا فيها حصيلة ما وصلوا إليه. ونحن، إذ نقرأ هذه الكتب، نختزن في شخصيّتنا شخصيّات مؤلّفيها وأبطالها وتجاربهم في الحياة. صحيحٌ ما قاله أندريه جيد: «لا يكفيني أن أقرأ أنّ رمال الشواطئ لذيذة، أريد أن تشعر قدماي الحافيتان بلذاذتها»[8]، وما قال فرانز كافكا: «إنّ الكتاب لا يستطيع أن يعوّض عن العالم. فالمرء يحاول أن يحبس الحياة في كتاب كما يُسجن الطائر المغرّد داخل القفص. وهذا مُحال»[9]. وصحيحٌ «أنّ التجارب الشخصيّة لا تُقرأ في الكتب، ولكنّ الكتب تساعدنا على الانتفاع بالتجارب»[10]. إننا نقرأ لأنّ حياتنا قصيرة، ولأنّ حياةً واحدة لا تكفينا. يقول ألبرتو مانغويل: «إنّنا نقرأ كي نفهم. جميعنا يقرأ نفسه والعالم المحيط بنا من أجل أن ندرك من نحن وأين نحن موجودون. القراءة مثل التنفّس؛ إنّها وظيفة حياتيّة أساسيّة»[11]. ونقرأ للمتعة؛ فقد يقرأ الإنسان ديوان شعر فيستمتع به ويطرب لأنه يرى أنّ الشاعر استطاع التعبير عن عواطف القارئ أفضل ممّا يعبّر، وصوّر نفسه أفضل ممّا يصوّر، وقدر على التعبير الجميل عن مشاعره حيث يعجز ويقصّر، فهو يقرأه ويلتذّ القراءة كما يلتذّ الظمآن الماء الزلال[12].
ماذا نقرأ؟
القراءة ظلّ النفس ومرآة الروح. قلْ لي ماذا تقرأ أقلْ لك مَن أنتَ. ماذا نقرأ؟ يقف كثيرون حيارى أمام هذا السؤال، يتردّدون بين هذا الكتاب أو ذاك ولا يقفون أخيراً على شيء، كمن يتردّد بين مقعدين فيسقط أرضاً. لكي نتحاشى هذه العقبة، يمكننا أن نتبع قاعدةً ذهبيّة، وهي أن نقرأ مؤلّفات نخبة الكتّاب والمفكّرين، الذين غربلهم الزمن وأجمع كبار القوم من نقّاد وعلماء على الأخذ بآرائهم وإنزالهم المنزلة العالية في التفكير الرصين والحُجّة البليغة والأدب الرفيع. ولنقرأ ما نحبّ لمن نحبّ من المؤلّفين؛ فالمآكل التي نتناولها على الرغم منّا قلّما تفيد. وليكن معلوماً أنّ فائدة القراءة لا تقوم على وفرة كمّيتها بل على قيمتها وهضمها. إنّ عظماء الكتّاب كانوا دائماً قرّاءً عظماء. ولكنّ ذلك يعني أنّهم قرأوا جيّداً وأتقنوا قراءة ما قرأوه أكثر ممّا يعني أنّهم قرأوا كثيراً. قال أحد كبار القرّاء في العالم العربيّ أنيس منصور: «لا تقل لي كم كتاباً قرأت بل كم سطراً فهمت»[13].
كيف نقرأ؟
أمّا كيف نقرأ؟ فالحقّ أنّ القراءة فنٌّ معقّد لا يُحسنه إلاّ قلائل. لا يوزَن فنّ القراءة بكثرتها ولكن بدقّتها، ولا بطول وقتها ولكن بقيمتها. في محاضرةٍ شهيرة ألقتها الروائيّة البريطانيّة فرجينيا وولف في العام 1926، في إحدى المدارس الخاصّة، تطلب إلى القارئ أن يكون صديقَ الكاتب قبل أن يكون قاضياً ويحكم عليه. وغالباً ما يتطلّب الكتّاب العظماء جهوداً جبّارة لقراءتهم على الوجه الصحيح. على القارئ، بادئ ذي بدء، أن يجلس في قفص الاتّهام مع المجرم قبل أن يتربّع على مِنصّة المحكمة مع القضاة. عليه أن يتماهى والكاتب، فلا يُملي عليه أفكاره، ولا يُقحم رأيه، ويُخرس العفريت الذي يهمس في أذنه: «أحبّ، أكره». باختصار، عليه أن يسمح للكاتب بأن يقول ما يريد قوله بحريّة[14].
وتختلف قراءة القصيدة عن قراءة الرواية أو المسرحيّة أو البحث والمقالة؛ إنّ طبيعة النصوص (الأدبيّة أو العلميّة)، وغايتنا من قراءتها هما اللتان تحدّدان كيفيّة القراءة. بمعنى آخر: تختلف كيفيّة القراءة باختلاف السبب الذي من أجله نقرأ، وباختلاف الكتاب الذي نقرأه. فإذا عرفنا ماذا نقرأ ولماذا نقرأ، عرفنا كيف نقرأ! يشبّه الناقد الفرنسيّ إميل فاغه قراءة الفلاسفة برياضة المسايفة (المبارزة بالسيف)، وقراءة الروايات بأحلام اليقظة، وقراءة المسرحيّات بتخيّل مشاهدة مسرحيّة، وينصح بقراءة الشعر مرّتين: قراءة صامتة أوّلاً، وقراءة جهريّة ثانياً[15]. ولكي تكون قراءتنا مفيدة، علينا أن نراعي فيها بعض الشروط، منها:
1- أن نتمهّل ونفكّر في ما نقرأ، فالقراءة السطحيّة لا تترك في النفس إلاّ أثراً سطحيّاً. «إنّ العين عمياء عندما تتحرّك، وإنّها فقط ترى عندما تقف»[16]. قال إمام البلاغة الشيخ عبد القاهر الجُرجاني: «الجملة أبداً أسبق إلى النفوس من التفصيل. ولكنّك ترى بالنظر الأوّل، والوصف على الجملة، ثمّ ترى التفصيل عند إعادة النظر، ولذلك قالوا: النظرة الأولى حمقاء. وبإدراك التفصيل يقع التفاضل بين راءٍ وراء، وسامع وسامع، وإنّك حين لا يهمّك التفصيل كمن يأخذ الشيء جُزافاً وجَرْفاً»[17]. لِنمضغ الكلمة كما نمضغ اللقمة، فكما أنّ الأطعمة إذا أُخذت سريعاً وبدون المضغ الكافي قلّت فائدتها بل وأضرّت، كذلك القراءة السريعة الخالية من الجِدّ والرويّة لا تفيد المطالع كثيراً لأنّه لا يقف دائماً على حقيقة المعاني، بل كثيراً ما يفهم الأفكار والمعاني على خلاف الصواب والحقيقة التي أرادها الكاتب. والقراءة السريعة ترادف الكسل. إنّ ألفاظ الكتّاب وتعابيرهم هي فلذات أكبادهم وبنات أفكارهم، فمن الغبن ألاّ نعير آثارهم الالتفات اللائق بها والعناية التي تستحقّ لتفهّمها. ولا يعتقدنّ أحد أنّ الكتاب إنما يُقرأ قراءة واحدة بل يحسُن بالقارئ أن يعيد تلاوة الكتاب في ظروفٍ مختلفة، كي يتجرّد من تأثير الظروف الحاليّة عليه ويضاعف من انتفاعه به. ولا يمكن أن نستحمّ في «الكتاب» نفسِه مرّتين. قال الصِّحافيّ المصريّ القدير أحمد الصاوي محمّد: «الكتاب الجيّد يظلّ طوال العمر، كالقلب الطيّب، منبعاً للخير»[18].
ويحسُن بالقارئ أن يتحلّى بفضيلة الصبر، فيعيد قراءة النصّ الواحد والجملة الغامضة وصولاً إلى فهم المعنى المقصود (وهذا ما يُسمّى النكوص والارتداد). «في إعادة القراءة ما يوقد نار الخيال ويُخصب القارئ فيكتب بدوره ويبتكر. إنّ إعادة القراءة هي التي تعلّم فنّ القراءة»[19]. القراءة إذاً هي مِداد الكتابة ومَدَدُها. بعد أن قرأ غوته كتاب أرسطو فنّ الشعر مرّتين (مرّة في العشرين وأخرى في الثامنة والأربعين)، كتب إلى صديقه شيلر يقول: «إنّ المرء لا يكتشف كتاباً اكتشافاً حقيقيّاً إلاّ في اليوم الذي يفهمه فيه»[20]. ويقول الأديب اللبنانيّ بولس سلامه الراسخ في الأدب إنّه عاود قراءة كليلة ودِمنة عشرين مرّة في مختلف حِقَب حياته[21]. ويعترف الكاتب الفرنسيّ هنري دو مونترلان بأنّه عاش مع كتاب Quo Vadis قصّة حبّ أولى عنيفة باهرة لا تشبهها أيّ قصّة حبّ أخرى[22]، ومثله سارتر مع رواية Michel Strogoff[23]، والروائيّ التركيّ الكبير، أورهان باموق، مع كتاب La Chartreuse de Parme[24]. ويروي مارسيل بروست أنّه عشق لتيوفيل غوتيه Capitaine Fracasse إلى حدّ أنّه آمن بأنّ قراءة سائر كتب المؤلّف ستتيح له أن يصبح محامياً شهيراً أو سياسيّاً محنّكاً[25]. قال ابن القيّم الجوزيّة: «وأمّا عشّاق العلم فأعظم شغفاً به من كلّ عاشق بمعشوقه، وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر»[26]. ولذلك صدق المثل اللاتينيّ القائل: «حذارِ قارئَ الكتاب الأوحد»[27].
2- وبعد أن نكون قد قرأنا الصفحة وفقهنا معانيَها وتعابيرها، ننتقي ما استحسنّاه منها لتبقى في ذاكرتنا. وأحسن وسيلة لذلك أن نقرأ والقلم بيدنا (ومنهم من يقرأ والمقصّ بيده). ذلك أنّ القلم هو أفضل معلّم على القراءة، يطبع في ذهننا مَلَكة الإنشاء والبلاغة أشدّ ممّا تفعله القراءة المجرّدة أو دراسة القواعد. لقد قيل: «يجب أن تقرأ بين الأسطر». ولكنّنا نقول: يجب أن تكتب بين الأسطر أيضاً! يقول أحد كبار القرّاء القدّيس أغسطينوس: «إنّك ستجني فوائد كثيرة من القراءة إذا ما وضعت بعض الملاحظات في الأماكن المناسبة. وعليك أن تزوّد بعضَ المقاطع علاماتٍ معيّنة للتمكّن من استرجاعها إلى ذاكرتك، وإلاّ فإنّها قد تفرّ من عقلك»[28]، و«كلّما حاولت أن تتبع حركة يدك فإنّه من الصعب أن تنام، أو تحلم أحلام يقظة، أو أن يحيد عقلك عمّا تقرأه»[29]. ولكن حتّى الشرود قد يَزيد من سُلطة القارئ على النصّ إذ يمتزج بأحلامه ورغباته. وعلينا أن نحفظ غيباً ما نستحسن، فنكتب أفضل ما نقرأ، ونحفظ أفضل ما نكتب، ونتحدّث بأفضل ما نحفظ لتتمّ الفائدة. وقديماً قيل: «ما حُفظ فرّ، وما كُتب قرّ»[30]. وقيل أيضاً: «أمّا ما يُكتب فيبقى، وأمّا ما يُقال فتذريه الريح»[31]. إنّ القراءة والكتابة تتفاعلان كما التعلّم والتعليم. وإنّ النصّ المقروء الذي يبقى عالقاً في الذاكرة يصبح كالبحيرة المتجمّدة، صلباً كالصخر وجسراً للعبور.
3- والشرط الجوهريّ للقراءة المفيدة هو تحليل ما نقرأ (القراءة التحليليّة). وخير طريقة أن ندرك الانطباع الذي خلّفه فينا الكتاب، ومن ثَمَّ محاولة تعليل ذاك الانطباع، من خلال مقارنة الانطباعات التي تولّدت من الكتب الأخرى بعضَها ببعض. ويمكن اختيار العنوان المناسب للقطعة التي قرأنا إذا كانت بلا عنوان، أو نأتي بمرادف لعنوانها الماثل للعيان. ثمّ نحلّل القطعة إلى عناصرها الأوّليّة، أي نسلك مع كاتبها الدرجات المتعدّدة التي اعتمد لبلوغ غايته، فنلاحظ تسلسل أفكاره وتدرّجه للوصول إلى غرضه إلخ... وبعد ذلك، ننظر في التصميم الذي اتّبعه: كيف اكتسب النصّ وَحدته، وما الفكرة الأمّ والأفكار الثانويّة؟ «إنّ الكتاب الجيّد كالمنزل الجيّد مرتّبٌ ترتيباً منظّماً دقيقاً. وإنّ الكتب الأكثر قراءةً هي إنجازٌ معماريّ. ولكلّ كتاب هيكلٌ عظميّ مخبوء بين دَفّتيه. ووظيفتك قارئاً قراءة تحليليّة أن تكتشف هذا الهيكل العظميّ»[32]. على القارئ، في هذه المرحلة، بعد أن يكون غبار القراءة قد همد، أن يخرج من دور الصديق إلى دور القاضي. ويمكن تدوين آرائنا في الأفكار المطروقة والمواضيع المطروحة ونقد أسلوب الكاتب. فيكون الكتاب حواراً جِدّياً بين الكاتب والقارئ، وحواراً ذاتيّاً بين القارئ وأناه، وحواراً حرّاً بين الكتاب والعالَم. فالقراءة لا تعني فكّ الحرف، وليس محو الأمّيّة مجرّد تعليم القراءة والكتابة غايةً في ذاتها، بل وسيلة إلى الفهم وتحصيل الثقافة، ولهذا يتّخذ أساتذة التربية قدرة الكتاب على إثارة التفكير وتحفيز النقاش وطرح الأسئلة دليلاً على جودته أو عدمها، وليس كتاباً جيّداً ذلك الذي يحمل كتلة كبيرة من المعلومات المسلّم بها، أو ذلك الذي يجيب عن كلّ أسئلة القارئ ولا يسمح له المشاركة؛ مثله مثل المحارة المغلقة التي تلقّح نفسها بنفسها. والقارئ غير الجادّ لا يسأل أسئلة ولا يجيب عنها. وهذه حقيقة واضحة بالنسبة إلى رسالة التعليم كلّها: كثير من المواد التي تُدرَّس لا تبقى في ذاكرة الطالب بعد قضاء مرحلة التعليم، وقد ينساها كلّها أو معظمها، لكنّ الهدف من هذه الدراسة هو تحريك مَلَكات العقل، والتدريب على الفهم والمناقشة، والبحث عن اقتناع. أي إنّ الهدف الحقيقيّ من التعليم كما من القراءة هو تنمية الشخصيّة بكلّ أبعادها.
أين نقرأ؟ ومتى؟
يُنصَح القارئ بأن يقرأ في مكانٍ ذي نورٍ وهواء وهدوء، وأن يكون المقعد ليّناً غير صُلب، وأن يكون الظهر مستقيماً، وأن تلامس القدمان الأرض. بَيْدَ أنّ الروائيّة الفرنسيّة مارغريت دورا تقول: «لا يمكنك أن تقرأ في مكان يتعرّض إلى نورين دفعة واحدة، نور النهار ونور الكتاب. عليك أن تقرأ في النور الكهربائيّ، والغرفة مغمورة بالظلّ، والضوء مسلّط على صفحة الكتاب فقط»[33].
ويُنصَح القارئ أيضاً بأن يقرأ في الأوقات الصباحيّة من النهار حين يكون هادئ الأعصاب خالي الذهن نشيط الدماغ، علماً أنّ الكتاب يصحبنا أنّى شئنا حتّى في السجن! ألبرتو مانغويل وكوليت يفضّلان القراءة في السرير، توفيق الحكيم تحت السرير! أمّا هنري ميللر فأفضل مكانٍ للقراءة بالنسبة إليه هو في أعماق غابة، بالقرب من شلاّل. وفتىً، كان يهوى القراءة في المرحاض[34]!
القراءة، اليوم
ولا يمكننا أن نغفل دَوْر الصحف، وهي اليوم غذاء الشعب العقليّ بل هي مدارس متجوّلة. يقول بول فاليري في حديثٍ له حول القراءة والكتب: «إنّ الانسانيّة في جملتها لا تقرأ اليوم شيئاً غير الصحف، لذلك يجب تعليم تلاميذ المدارس أن يطالعوا الصحف»[35]. وإنّ تحليل صحيفة من الصحف وغربلتها هما رياضة على أكبر جانب من الفائدة والقيمة. مثلها مثل المقارنة بين عدّة مواقع إلكترونيّة تعالج الموضوع عينَه.
ولا شكّ في أنّ الكتاب لم يعد اليوم الوسيلة التثقيفيّة الأولى بل راح التلفزيون وأخواته، ولا سيّما الإنترنت، تزاحمه. لكن من الواضح أنّ الكلمة المكتوبة في الكتاب أو الصحيفة هي التي يستطيع الإنسان أن يتمهّل عندها ويتأمّلها حتّى يصل إلى فهمها فهماً سليماً يتّخذه أساساً للاقتناع أو الرفض، في حين أنّ الكلمة التي يسمعها الإنسان من المذياع لا يمكنه الركون إليها لأنها تمرّ مرّاً سريعاً (كأسراب البطّ) ولا يستطيع أن يوقف تدفّقها (تدفُّقَ النهر)، كما لا يستطيع أن يوقف اطّراد المعلومات على شبكة الإنترنت، ليتأمّلها ويسبر أغوارها. وهي لذلك كالطلقة الطائشة قد تصيب الهدف وقد تُخطئه.
ويؤكّد علماء النفس والاجتماع والتربية أنه إذا كانت الكلمة المكتوبة أقدر على التأثير في الإنسان من الكلمة المسموعة، فإنّ الصورة المرئيّة هي أقلّ الوسائل قدرةً على التأثير. والصورة المرئيّة قلّما تُفصح بدلالتها عن ذاتها، وإنّما يُضفي الرائي هذه الدلالة عليها، وهو قد يستطيع ذلك وقد لا يستطيعه. ولذلك نرى التلفزيون والإنترنت يجمعان بين الصورة المرئيّة والكلمة المسموعة. ولكن هذا العون مشكوكٌ في أمره؛ فهل تتضافر الكلمة المسموعة مع الصورة المرئيّة في توضيح الفكرة؟ الأرجح أن تتضارب الوسيلتان: فإمّا أن يُنصت المرء إلى الكلمة المسموعة، وإمّا أن يدقّق النظر في الصورة المرئيّة. أمّا أن يجمع المتلقّي بين السمع الفاهم والنظر المدرك فبلبلةٌ لا تحقّق الهدف المنشود بل تشتّت الانتباه بين حاسّتي السمع والبصر.
وإذا كان التلفزيون (والإنترنت) في النهاية وسيلة تثقيفيّة لا بدّ منها، إلاّ أنّها لا يمكن أن تحلّ محلّ الكتاب، لأنّ الكتاب يتفرّد في تأمين أربعة أمور:
1- إنّ الكتاب يكون تحت تصرّف القارئ حين يشاء، وفي الاختصاص الذي يشاء، يحمله معه بسهولة أنّى يذهب؛ فكتب الجَيْب لم تولد مصادفةً. قال الروائيّ الأميركيّ إرنست همنغواي في كتاب ذكرياته الباريسيّة، بعد أن اهتدى إلى مكتبةٍ تُعير كتباً: «كان بمقدوري أن أصطحب كنزي معي أنّى سافرت، حتّى إلى الجبال»[36].
2- إنّ في الكتاب متعةً للحواسّ، ولا سيّما اللمس والشمّ؛ وفي بعض الكتب تَرَفٌ في الإخراج والطباعة والترقين. وعليه، فهو قطعةٌ فنيّة تضاهي منحوتةً أو حجراً كريماً.
3- إنّ الكتاب حين يوصل الأفكار والمعاني يترك للقارئ حريّة التصوّر والتخيّل، فلا يفرض مشهداً معيّناً أو أشخاصاً وأشكالاً معيّنة كما تفرضها الصورة التلفزيونيّة المكتملة العناصر. قال الروائيّ الفرنسيّ غوستاف فلوبير في إحدى رسائله: «المرأة المرسومة تشبه امرأة. هذا كلّ شيء. أمّا المرأة المكتوبة فتجعلنا نحلم بألف امرأة»[37].
4- إنّ الكتاب يُسهم في بناء ذاتيّة قارئه وكينونته، في حين أنّ التلفزيون الذي يشاهده الملايين يؤثّر في الذوق العامّ ويضمّ المُشاهد إلى القطيع. وإنّ شبكة الانترنت ما تزال وقفاً على الطبقات الميسورة ولم تصل بعد إلى بيوت ملايين الفقراء في العالم.
تلخيصٌ وتخليص
الثقافة مجهود، وكلّ نظامٍ حضاريّ يُهمّش المجهود الإنسانيّ يُضعف الثقافة. الرجل الذي يقرأ يقف كلّ حين ليفكّر، وهذه الطريقة لا تتّفق وفنون الحركة التي تتدفّق كالنهر. وماذا تحمل الأنهار غير أخلاط لا نستطيع أن نفصل فيها الأحسن عن الأسوأ؟ القراءة معناها الاختيار إذ إنّ مَنْ يقرأ يتقرّى أي يختار. والكائن الحيّ إنّما هو حيّ لأنّه يختار: يختار مادّة غذائه جسديّاً وروحيّاً، ولا يعبّ كلّ شيء[38]. وإنّ كلّ وسائل التكنولوجيا هي، كالمال، خادمٌ جيّد وسيّدٌ سيّئ.
------------------
* متخصّص بالآداب العربيّة. أستاذ في الجامعة اللبنانيّة، وجامعة القدّيس يوسُف - بيروت. له مؤلّفات، منها كتابان في أدبيّات القراءة: لوحات إن حكت - قراءات في لوحات القراءة (دار البَنان، دير الزهراني، ط1، 2011)؛ ساعات رمليّة وألماس - نصوص منارات في تاريخ القراءة (دار النهضة العربيّة، بيروت، ط1، 2011).
[1] Jorge Luis Borges, L’auteur et autres textes, trad. Roger Caillois (Gallimard/L’Imaginaire, Paris, 1982), p. 213.
[2] إنجيل يوحنّا، 1: 1.
[3] سورة العَلَق: 1-5.
[4] كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون (دار الجيل، بيروت، 1996)، 1/38.
[5] ديوان المتنبّي، شرح ناصيف اليازجي (دار بيروت، بيروت، 1984)، 2/355.
[6] راجع: توفيق الحكيم، عصا الحكيم (دار الكتاب اللبنانيّ ومكتبة المدرسة، بيروت، ط2، 1983)، ص61-62.
[7] عبّاس محمود العقّاد، الفصول في المجموعة الكاملة (دار الكتاب اللبنانيّ ومكتبة المدرسة، بيروت، ط1، 1983)، 24/283.
[8] André Gide, Les nourritures terrestres (Gallimard/folio, Paris, 1997), p. 32.
[9] ذكره ألبرتو مانغويل في كتابه تاريخ القراءة، ترجمة سامي شمعون (دار الساقي، بيروت، ط1، 2001)، ص110.
[10] العقّاد، م. س.، 24/22.
[11] مانغويل، م. س.، ص18.
[12] أنظر: أحمد أمين، فيض الخاطر في المقتبس، دراسة ومختارات خليل هنداوي وعمر الدقّاق (مكتبة الشرق، بيروت)، ص89-92.
[13] أنيس منصور، قالوا (المكتب المصريّ الحديث، القاهرة، ط10، 1992)، ص215.
[14] Virginia Woolf, The Common Reader (Ebooks@Adelaide, South Australia, 2004), Second Series, chap. 22 «How Should One Read a Book?».
[15] Emile Faguet, L’art de lire (Armand Colin, Paris, 1992), pp. 27-32-53-69.
[16] مورتيمر أدلر، كيف تقرأ كتاباً، ترجمة طلال الحمصي (الدار العربيّة للعلوم، بيروت، ط1، 1995)، ص57.
[17] أسرار البلاغة، تحقيق السيّد محمّد رشيد رضا (دار المعرفة، بيروت، 1978)، ص138.
[18] أحمد الصاوي محمّد، ما قلّ ودلّ (دار الكتب المصريّة، القاهرة، 1934)، ص83.
[19] Faguet, op. cit., pp. 140-141.
[20] ذكره عبد الرحمن بدوي في تصديره ترجمته كتاب فنّ الشعر لأرسطو (بيروت، دار الثقافة، ط2، 1973)، ص11.
[21] بولس سلامه، حكاية عُمْر (دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، ط2، 1973)، ص36.
[22] Henry de Montherlant, Le treizième César (Gallimard, Paris, 1970), p. 143.
[23] Jean-Paul Sartre, Les mots (Gallimard/folio, Paris, 1997), p. 108.
[24] أورهان باموق، ألوان أخرى، ترجمة سحر توفيق (دار الشروق، القاهرة، ط1، 2009)، ص133.
[25] Marcel Proust, Sur la lecture (Librio, Paris, 2000), p. 36.
[26] إبن القيّم الجوزيّة، روضة المحبّين، تحقيق أحمد شمس الدين (دار الكتب العلميّة، بيروت، ط2، 2003)، ص69.
[27] Maurice Maloux, Dictionnaire des proverbes, sentences et maximes (Larousse, Paris, 1993), p.306.
[28] ذكره مانغويل في تاريخ القراءة، ص79-80.
[29] أدلر، م. س.، ص58.
[30] الحُصَري، زهر الآداب، تحقيق صلاح الدين الهوّاري (المكتبة العصريّة، صيدا - بيروت، ط1، 2001)، 1/180.
[31] مانغويل، م. س.، ص60.
[32] أدلر، م. س.، ص95-97.
[33] ذكره مانغويل، م. س.، ص179.
[34] Henry Miller, Les livres de ma vie (Gallimard/L’imaginaire, Paris, 2007), pp. 344, 360.
[35] ذكره توفيق الحكيم في فنّ الأدب (دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، ط2، 1973)، ص176.
[36] Ernest Hemingway, A Moveable Feast (Scribner, New York, 2003), chap. 15 «Evan Shipman at the Lilas », p. 134.
[37] Gustave Flaubert, Correspondance (Gallimard/La Pléiade, Paris, 2007), Lettre à Georges Charpentier du 15 février 1880, t. V, p. 832.
[38] جورج دوهاميل، دفاع عن الأدب، ترجمة محمّد مندور (لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط2، 1943)، ص13، 18-20.