دراسات نقدية
د. جوزف لبُّس*: بسمة الصَّيَّاديّ – مِعطفُ الرَّماد جسدُ الضَّوء
«الناس الضِّعاف الحساسيّة لا يضجرون من الزمن»
فرناندو بيسوا[2]
1- في الطريق إلى الفيحاء
قبل أربعة أعوام، كنتُ أجتاز 150 كلم وصولاً إلى الفيحاء. وقبل أن يلوحَ وجهُها خلال حجابـِها الشفّاف، كانت تروّعني مشاهدُ لم أرَها قبلاً: سائقُ باص يقود بسرعةِ الصاروخ وهو يسبّح بسُبحته؛ فتىً في الثانيةَ عشْرةَ يحمِل على رأسه أربعَ صواني كِنافة تحت المطر؛ حيواناتٌ كثيرة لم تستطع اجتيازَ العوائق أو الالتفافَ حولها، فنفقت على جانبَي الطريق؛ مدخّنون من كلّ حدبٍ وصوب، وكأنّ المدينةَ تقع على فوّهة بركان لا على «جبلِ إله» (تُربِل)[3]، ولا هي تنقسم إلى «بلدٍ ومينا، وبينهما البساتين»[4]، ولا كانت ذات يومٍ عاصمةَ الممالك الثلاث (صور وصيدا وأرواد)[5]، ولا عدَّها الكَتَبةُ الإفرنج «كجنّاتِ عَدْن»[6]!
2- اللقاء
وما زلت أذكر اللقاء الأوّل: محفظتي تتمرّد، تأبى أن تخرجَ منها الكتب، تهرول طالبةٌ بلون القمح، تُطيعني محفظتي. ولم تكن سنبلةُ القمح لتواظبَ على الحضور، كانت تغيب دهراً، وحين تحضَر تبشّر بمواسمِ جنى.
ودارتِ الأيّام دورتها، والتقينا، مرّةً جديدة، على صفحة التواصل الاجتماعيّ. وقرأتُها ناثرةً شاعرةً حكيمة، وقلتُ في نفسي ما قال توفيق الحكيم في أوسكار وايلد: «إنّ لها قلماً يلفظ ذهباً»[7]. وكانت الباكورة: مِعطفُ الرماد جسدُ الضوء (شعر وسرد وحكمة)! هل قلتُ باكورة؟ بل هي الحقلُ الخصيب وقد سنبل واكتهل واستوى على سُوقه.
3- في حضرة الأدب
مجموعاتٌ ثلاث، تأمّليّة وشعريّة وقَصصيّة، تنطِق بموهبةٍ أدبيّة قلّ نظيرها. في زهرة العمر هي، على خَفَرِ بنفسجةٍ تؤثر الظلّ، وتتلفّع بمِعطف الصمت الوثير، وتهجِس بهاجس الزمان، و«يراعٌ من حبٍّ وماءٍ»[8] هو، فإذا هي «زهرةٌ في حقلِ ألغام»[9].
تحتلّ المجموعةُ القَصصيّة البابَ الثالث، بيد أنّها واسطةُ العِقد؛ إذا كانت المجموعةُ الأولى سبعين صفحة، والثانية تسعين، فإنّ المجموعةَ الثالثة هي مجموعُهما أي مئةٌ وستّون. وإن دلّت الأرقامُ على شيء، فإنّما تدلّ على قدرة القصّة على ضمّ التأمّل والشعر في قلبها، وتدلّ على أنّ الموهبة الأدبيّة ههنا بلغتْ أوجَها في فنّ القَصّ. ويعظُمُ وَقْعُ المجموعةِ القَصصيّة بعد قراءتنا المجموعتَيْن التأمّليّة والشعريّة، ويجدر بنا قراءتـُها مَثْنى وثُلاث، لأنّ «الأدب هو ما تقرأه ثلاثَ مرّات: مرّةً لتفهمَه، ومرّةً لتُعجَب به، ومرّةً لتصيح: اللهُ أكبر!»[10].
4- السرد واسطة العِقد
المجموعة التي بين يدينا تلملم المشاهدَ التي كنتُ أراها كلَّ صباح وسواها، تسطّر حكاياتِ حارتِنا والبؤساء والمعذّبين في الأرض: الأمّ الثكلى، المتسوّلة بائعة الورد، طفلة الشهر التي ماتت جوعاً، زوجة الشاعر الـمَنسيّة، الخمسينيّة التي تحيا على ذكرى حبّ، الكُتُبيّ الذي سلبوه مكتبته، المناضل الذي فُجِع في حبّه ووطنه، الفلسطينيّة التي قتلت أباها العميل، الجامعيّة التي أصابها سرطان، المطلَّقة، المعنَّفة، المغتصَبة، العانس، العقيم... إن عَنُفوا فلأنّ عنفَهم ردّةُ فعل ضدّ القمع والقهر والجَوْر. وإن جَمَحوا فلأنّ الواقعَ المأزوم يُنبت للمرء أجنحة. ولا عجب، فالسرد يكون حيث تكون الأزمة الاجتماعيّة؛ يصحّح الحياة، يتحدّى الموت، يدافع عن كرامة الإنسان، يهبط بالفلسفة إلى الأزقّة والشوارع والأحياء، يطلب الحكمة من أفواه مجانينها ولا يتأمّل همومَهم من علياءِ برجٍ عاجيّ[11].
قد تختلفُ القصّةُ عن الشعر في تعدُّد ذواتها أو أصواتها، بَيْدَ أنّ السردَ في هذه المجموعة، تمّ بالمتكلّم المؤنّث والمذكّر يتخلّله الالتفاتُ البليغ[12]، فكأنّ ذاتَ الكاتبة انشطرت ذاتين، بل إنّها تقمّصت شخصيّات حكاياتِـها حتّى غدت واحدة منهم؛ تحمِل هُويّتهم، تتكلّم بصوتهم، تأكل من صحنهم، تتأبّط كتبهم، تمشي معهم في دروب الحياة، وتُصغي بقلبها وعينها إلى حكاياتهم. كأنّ الكاتبةَ عاشت ألفَ عام، وإن كانت في سنّ العشرين؛ وخبرت الناسَ جميعاً، أخيارَهم وأشرارَهم، من غرفتها الصغيرة؛ فأصبحتْ زبيباً وهي حِصْرِم.
5- السرد والزمان
ولـمّا كان الإنسان كائناً فانياً ولو في بروجٍ مشيّدة، فإنّ الوجودَ الأصيل هو الوجودُ مع الآخرين الذين يعيشون معنا، ونقلُ تجاربهم بوساطة السرد. السرديّةُ إذاً تفلُّتٌ من هاجس الصراع مع الموت، وحلٌّ للغز الزمن الضائع. إنّ الزمنَ يغدو إنسانيّاً حين يكون زمنَ الوجود مع الآخرين، ويكتسب معنىً حين يرتدي رداءً سرديّاً. صدّر الروائيّ الكولومبيّ غارسيا ماركيز (1927-2014) سيرته الذاتيّة نعيش لنرويَها بقوله: «ليست الحياة ما عِشناه، ولكنّها ما نتذكّره وكيف نتذكّره»[13]. السرد هو نمط الحياة ذاتـِها، والقصّة هي استخراج الحبكة من تعاقُب الزمن. إنّنا نروي القِصص، لأنّ حياةَ الإنسان تحتاجُ وتستحقُّ أن تُروى. تقول المحتفى بها في مقدِّمة مؤلَّفها الذي أهدته إلى الأطفال والمظلومين والمهمَّشين، تقول وبالخطّ العريض: «أنتَ أيّها الإنسان أعظم من الكتابة، وأكبر من الكلمة»[14]. وعليه، فإنّ الحياة لا يمكن أن تُعاش بلا أدب، والنصّ المسرود عالمٌ يمكن أن يُعاشَ فيه، والكتابة والقراءة طريقتان للعيش في هذا العالم، والكتاب نظّاراتٌ مكبِّرة تمكّن القارئ من قراءة ما في نفسه[15]. ولا عجبَ بعدُ أن يكونَ شعارُ كاتبتِنا والكتاب ساعةً تُعلَّق في العنق، عقرباها قلما رصاص مسنونان، يدوران في الاتّجاه المعاكس!
6- القصّة القصيرة جدّاً
ولن أطويَ الكلام على المجموعة القَصصيّة من غير إشارةٍ إلى فنّ المستقبل بامتياز، عنيتُ ال ق. ق. ج. أي القِصص القصيرة جدّاً (Short Short Story)[16]، وعددُها تسعَ عشْرةَ قصّة.
في أدبيّات هذا الفنّ الجديد الذي خرج غربيّاً من مِعطف غوغول، وعربيّاً من مِعطف جبران، يُذكَر أنّ الكاتب الغواتيماليّ أوغستو مونتيروسو (1921-2003) هو صاحب القصّة القصيرة الأقصر والأشهر عالميّاً، عنوانها «الديناصور» وتتألّف من سطرٍ واحد (سبع كلمات): «حين استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك»[17]. بَيْدَ أنّي أوثر فيل بسمة على ديناصور مونتيروسو؛ كتبتْ:
الفيل الصغير علِق بقدمه مِسمار ..
ساعدَه بطيبته، وانتشل منه الألم ..
ابتسم الفيل، وكانت آخرَ ابتسامةٍ له
بعدها كبُر
وصار أضخم، يقهر الأشياء، يدوسها
وأوّلُ مَنْ داس عليه
هو ذاك الطير..[18]
في هذه ال ق. ق. ج. تجتمع مقوّماتٌ فنيّة وجماليّة من تسريع الزمن، وتشذير السرد، وفِعليّة الجملة، ونُقَط الحذف، وتجويع اللفظ، وإشباع المعنى، ومن تكثيف، وتأصيل (أي استلهام التراث)، وترميز، وشاعريّة، ومفاجأة، ومفارقة، وإدهاش. هندسةٌ كاملة تشبه تنظيمَ الحدائق اليابانيّة: غابةٌ في سنتمتر!
وكلّ ق. ق. ج. تحمِل رؤية كاتبتها الفلسفيّة إلى الوجود والإنسان والمعرفة والقيم في شكلٍ منسجم ومتماسك، يتزيّا حيناً بزِيّ القصّة الخاطرة، ويلبَس حيناً آخر لَبوسَ القصّةِ الومضة أو اللوحةِ القَصصيّة... وبال ق. ق. ج. تُلغي الكاتبةُ الحدود بين الشَّذْرة والشِّعر، وتطرح أسئلةً كبيرة بالرغم من حجمها الصغير. مرّةً جديدة يُثبت السَّرد أنّه واسطةُ العِقد.
7- هنيئاً
هنيئاً لطرابلس ابنتَها!
هنيئاً للجامعة اللبنانيّة طالبتَها!
هنيئاً لأسرة الصَّيّاديّ[19] أديبتَها!
وهنيئاً للأدب بسمتَه!
بقلم: د. جوزيف لبٍّس
-----------------------
[1] بسمة الصيادي، مِعطف الرماد جسد الضوء (شعر وسرد وحكمة)، بيروت، دار أوراق الزمن، ط1، 2014، 352 ص. أُلقيَ هذا النصّ في ندوة الأديبة الواعدة بسمة الصيادي، مركز الصفديّ الثقافيّ - طرابلس (لبنان)، في 7/6/2014.
[2] كتاب اللاطمأنينة، ترجمة المهدي أخريف (القاهرة، المركز القوميّ للترجمة، ط2، 2008)، ص118.
[3] أنيس فريحة، معجم أسماء المدن والقرى اللبنانيّة (بيروت، مكتبة لبنان، ط3، 1992)، ص107.
[4] رياض حنين، أسماء قرى ومدن وأماكن لبنانيّة في روايات شعبيّة (بيروت، منشورات دار لحد خاطر، 1986)، ص141.
[5] أمين الريحانيّ، قلب لبنان (بيروت، دار الكتاب اللبنانيّ، ط6، 1978)، ص537-538.
[6] الأب هنري لامنس اليسوعيّ، تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار (بيروت، دار الرائد اللبنانيّ، ط2، 1982)، 2: 136.
[7] ذكره جوزف لبُّس في تفّاح من ذهب في سلال من فضّة (بيروت، الدار العربيّة للعلوم، ط2، 2008)، ص425 بتصرّف.
[8] كما وصفها الباحث التربويّ سلطان ناصر الدين.
[9] كما وصفها الأديب المصريّ ربيع عقب الباب.
[10] سعيد تقيّ الدين، رفّة جناح (أنطلياس - لبنان، فجر النهضة، ط1، 2000)، ص52.
[11] أنظر: سعيد الغانمي، خزانة الحكايات - الإبداع السرديّ والمسامرة النقديّة (الدار البيضاء - بيروت، المركز الثقافيّ العربيّ، ط1، 2004)، ص171.
[12] الالتفات، في علم المعاني العربيّ، هو الانتقال في التعبير من صيغةٍ إلى أخرى، ومن أسلوبٍ إلى آخر، كالتنقّل بين الحكاية والخطاب والغَيْبة، وانصراف المتكلّم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة. أنظر: أحمد مطلوب، معجم المصطلحات البلاغيّة (مطبعة المجمع العلميّ العراقيّ، 1983)، 1/294-303.
[13] Gabriel Garcia Marquez, Vivre pour la raconter, trad. de l’espagnol par Annie Morvan (Paris, Grasset, 2003), p. 7.
[14] مِعطف الرماد جسد الضوء، ص7.
[15] أنظر : ديفيد وورد (تحرير)، الوجود والزمان والسرد - فلسفة بول ريكور، ترجمة وتقديم سعيد الغانمي (الدار البيضاء وبيروت، المركز الثقافيّ العربيّ، ط1، 1999).
[16] أفدنا في ما يلي من كتاب دراسات في القصّة القصيرة جدّاً للدكتور جميل حمداوي (2013، نسخة إلكترونيّة)، وهو متوفّر على موقع الألوكة:
http://www.alukah.net/literature_language/0/61430
[17] الأعمال الكاملة وقصص أخرى، ترجمة نهى أبو عرقوب (أبوظبي، كلمة، ط1، 2013)، ص83. وقد قرظ قصّة «الديناصور» الروائيّ البيروفيّ ماريو فارغاس يوصا في رسائل إلى روائيّ ناشئ، ترجمة أحمد المدينيّ (دمشق - الرباط، دار التكوين ومنشورات الزمن، 2009)، ص107.
[18] مِعطف الرماد جسد الضوء، ص339.
[19] ورد في معجم أسماء الأسر والأشخاص لأحمد أبي سعد (بيروت، دار العلم للملايين، ط2، 1997، ص536-537): الصَّيَّاديّ اسمُ أسرةٍ إسلاميّة في طرابلس، عربيّ منسوب إلى صَيَّاد وهو اسم عشيرة من عشائر الشام والعراق. وفي التاريخ، الصَّيَّاديّ اسمُ فرقةٍ من مالك، من جهينة، إحدى قبائل الحجاز.