دراسات نقدية
د. جوزف لبُّس*: أمين نخلة الشاعر الفنّان
«أمين نخلة سليل البَرْي الأنيق... ينكح اللفظة لفرط ما يصوغها، فتخرج من تحته وقد بدت عليها آثارُ الشهوة، وبدا عليه عمقُ إيمانِه بالجمال»
خليل رامز سركيس[1]
الأدب تأثُّرٌ وتأثير
لا شكّ في أنّ الأدب، أسوةً بسائر النشاطات الإنسانيّة والحضاريّة، يخضع لعوامل التأثّر والتأثير. «ولا ينطوي أدبٌ على نفسه، في عصرٍ من عصوره، إلّا أصابه الوَهَن والذبول. وهذه ظاهرة عامّة تبعتها الآداب كلّها في تاريخها الطويل»[2]. اللقاح إذاً ضروريّ بين أدبٍ وأدب، ولن يضيرَ الأديبَ تأثّرٌ بنتاج أديبٍ آخر ما دام «الليث هو عدّة خراف مهضومة»[3].
الأدب اللبنانيّ وفرنسا
لم يكن الشعر اللبنانيّ الحديث ببعيد عن التأثّر باتّجاهاتٍ وتيّاراتٍ أدبيّة غربيّة؛ فبعد الحرب العالميّة الأولى، خضع لبنان للاحتلال الفرنسيّ تحت ظلال الانتداب، فتوثّقت روابط الفكر والروح بين الوطن وفرنسا، ونشطت الهجرة اللبنانيّة إلى دول أوروبّا ولا سيّما فرنسا. وفي هذه المرحلة، مرحلة ما بعد الحرب الأولى، تطوّرت الطبقة المتوسّطة في المجتمع اللبنانيّ بتطوّر الصحافة، فتعرّف اللبنانيّون إلى مدارسَ ومذاهبَ أدبيّةٍ جديدة من كلاسيكيّة ورومنسيّة ورمزيّة... ونبادر إلى القول إنّ هذه المذاهب وصلت لبنانَ متواكبةً متزامنة، فكان بين الشعراء اللبنانيّين الكلاسيكيّ والرومنسيّ والرمزيّ في مرحلةٍ زمنيّةٍ واحدة. قال صلاح لبكي: «كان لنا في مطلع القرن فئتان من الشعراء: فئة المحافظين، وفئة أخرى تأثّرت بواقع الأمّة وبمناحي التفكير الغربيّ... فإذا بين الشعراء الطالعين مَن انفعل بالرومنطقيّين، وإذا منهم مَن انفعل بالرمزيّين. فالمذهبان ظهرا معاً وتواكبا، لم يتقدّم أحدهما الآخر، ولا كان أحدهما [ كما حدث مع المذاهب الفنيّة في الغرب] ردّة في وجه الآخر»[4]. وكان جبران خليل جبران ممّن تأثّروا بالرومنطيقيّة والرمزيّة وانفعلوا بهما معاً. وكان إلياس أبو شبكة ممّن تأثّروا بالرومنطقيّة. أمّا سعيد عقل فاستهوته الرمزيّة حتى غدا أكثر الشعراء اللبنانيّين رمزيّة. وأمّا أمين نخلة فكان «طائراً في غير سربه»[5]. وكما اختلف الشاعر العبّاسيّ ابن الروميّ عن شعراء عصره بطول نَفَسه، وهجائه الكاريكاتوريّ، ووصفه المآكل والمشارب، وتشخيصاته الطبيعة بصورة حيّة؛ اختلف أمين نخلة عن معاصريه اختلافاً جليّاً. وهذه الفرادة أشار إليها غيرُ ناقد: فصلاح لبكي وصفه بأنّه «نسيج وحده»[6]، ومارون عبّود وصفه بقوله: «نُطلّ على أمين نخلة الشاعر، فنشرف على مدينةٍ جديدة»[7]. فما جديد أمين نخلة؟ وبمَ تفرّد عن سواه حتّى كان فريد عصره ونسيج وحده؟
أمين نخلة والبرناسيّة
قال صلاح لبكي: «أمين نخلة أقرب إلى شعراء البرناس الفرنسيّين منه إلى أيّ مدرسةٍ أخرى، وهو ما تفرّد به عندنا»[8]. ولا بدّ، في هذا المقام، من الوقوف على أهمّ مبادئ البرناسيّة أو ما عُرف أيضاً بمذهب الفنّ للفنّ، لنرى مدى تطابقها وشعرَ الأمين.
إنّ البرناسيّة مذهبٌ أدبيّ قام على أنقاض الرومنسيّة والرمزيّة (1866)، وهي منسوبة إلى جبل البرناس وهو «جبل في بلاد اليونان تزعم الميثولوجيا الإغريقيّة أنّه مقرّ أبولون وربّات الفنون، أي الآلهات الشقيقات المعنيّات بالغناء والشعر والرسم والنحت والعلوم والأساطير»[9]، والبرناسيّة تؤمن بالمبادئ التالية:
1- العودة إلى الكلاسيكيّة اليونانيّة:
رأى البرناسيّون في اليونان القديمة مادّةً شعريّة غنيّة بعدما نضبت منابع الشعر، ودعَوا إلى الدقّة الكلاسيكيّة في التعبير، وأن يكون الشاعر سيّد صنعته، فلا يدع إلهامه يسيطر عليه، ولا يترك للمصادفات شيئاً. وكان لو كونت دو ليل، مترجم ملحمتَي هوميروس، يرى الشعرَ دقّةً في التصوير وقوّةً في القافية[10].
2- لا غاية من الفنّ إلّا المتعة الجماليّة:
ليس الفنّ عندهم وسيلة لغاية إصلاحيّة أو أخلاقيّة أو اجتماعيّة. الجميل موضوعُه متعةٌ لا غايةَ لها ولا عَلاقةَ لها بالمصلحة الخُلقيّة. وفي تسمية بودلير ديوانه أزهار الشر ما يشير إلى عنايته بالجمال، على الرغم من الشرّ، بل ما يوحي بوجود الجمال حتّى في الشرّ!
3- الاحتفال بالشكل:
إذا كانت الرمزيّة قد قرنت الشعر بالموسيقى، فلقد قرنت البرناسيّة الشعر بالنحت[11]، وعُنيتْ بالتجسيم والتجسيد؛ فالقصيدة عند البرناسيّين مجموعةٌ من الأنغام والألوان والأشكال ينبغي أن تجسّدها الكلمات بالصور. والوصف الموضوعيّ من أهمّ خصائص القصيدة البرناسيّة. والموضوعيّة عند البرناسيّين هي ردّة فعل على الرومنسيّين، وبخاصّةٍ لامارتين وموسّه ونرفال وهوغو، الذين أغرقوا في الذاتيّة والوجدانيّة، وفي غناء سويداء القلب وأحزان الحبّ، وكذلك تأنّق البرناسيّين في الصياغة الفنيّة هو ردّةٌ على ركاكة أسلوب هؤلاء.
4- الاعتداد بالذوق والاحتكام إليه:
ليس للناقد أن يناقش ما يريد الشاعر أن يقوله للناس أو يتحكّم فيه، وإلّا كان في ذلك اعتداء على حرّيته. ولذا، كان منهج البرناسيّين تأثّريّاً انطباعيّاً أشدّ منه موضوعيّاً. يقول الناقد الإيطاليّ بنديتّو كروتشه: «على الناقد أن يقف أمام مبدعات الفنّ موقفَ المتعبّد، لا موقفَ القاضي ولا موقفَ الناصح، وما الناقد إلّا فنّانٌ آخر يُحسّ ما أحسّه الفنّان الأوّل»[12].
5- غلبة فنّ الوصف الشعريّ (الموضوعيّ) عندهم:
لأنّ الوصف بطبيعته يحوي المبادئ التي يقوم عليها مذهبهم من دقّةٍ في التصوير، وعنايةٍ بالشكل، وتجسيد المرئيّات، وتنحية الذات عن الموصوف[13].
هذه المبادئ البرناسيّة تجد صداها البعيد في آثار أمين نخلة، وفي ملامح شخصيّته وصفحات حياته، وهو المعجب بالشعراء «الأصوليّين» كأحمد شوقي وخليل مطران؛ إذ حرص على إثبات شهادة شوقي بشاعريّته في دواوينه الثلاثة: دفتر الغزل (1925) والديوان الجديد (1962) وليالي الرقمتَيْن (1966). قال فيه شوقي: «هذا وليٌّ لعهدي وقيّمُ الشعر بعدي».
وأمين نخلة يخصّ شوقي بقصائد المديح. يقول في قصيدة «الترحيب بشوقي»[14]:
وأنا شـاعرُ الشباب، وحسْبي *** جولةٌ عن يمينه أو يساره
فإذا افترّ ثغر شعري في الرَّوْع *** فأعظِـمْ بثغره وافتراره
وأمين نخلة مؤمن بأنّ غاية الفنّ هي المتعة الجماليّة وحسْبنا اقتباس بعض أقواله. قال في تعريف نشأة الفنّ، هذا التعريف الذي يتصدّر مفكِّرته الريفيّة: «وُلد الفنّ يوم قالت الحيّة لحوّاء: أطيب أكلةٍ في الفردوس: التفّاحة، بدلاً من أن تقول لها: كلي التفاحة»[15]. الفنّ في الإغواء أجَلَب خيراً أم شرّاً. ويقول: «إنّما الأدب وَلَهٌ بالجمال»[16]. وهذا من البرناسيّة في الصميم. ويقول في مقدّمة ليالي الرَّقمتَيْن: «كأنّ الجمال إنّما هو جمال لكونه جمالاً». الجمال هو الغاية وهو الوسيلة. ويتّفق مع البرناسيّين في العناية الفائقة بالشكل أو اللفظ؛ يقول: «الديباجة البارعة شرطٌ عندنا مقدّم... والأدب على الجملة إنّما هو بيان، فكيف يصلح أمره إلّا حين يكون صبيحاً ظاهرَ البهج دافقَ الرونق»[17]. وفي موضعٍ آخر: «كأنّ سرّ الأسرار في هذه الصناعة هو وضع اللفظة موضعَها... الصبر فنّ الأمل حتّى في الأدب»[18]. ولعلّ تتلمُذَه على أستاذه اللغويّ الكبير الشيخ عبد الله البستانيّ ساعده على التضلّع من اللغة العربيّة حتّى غدا في فِقه اللغة إماماً، وعضواً دائماً في المجمع العلميّ العربيّ. ومن الجدير بالذكر أنّ الشيخ عبد الله أهدى إلى أمين نخلة الجزء الأوّل من معجمه اللغويّ البستان، فتوجّه الشاعر إليه بقصيدة «إلى أستاذي»[19] يعترف بفضله وينوّه بقاموسه.
ولا يلتقي نخلة البرناسيّين لأنّه معجبٌ بالأصوليّين ومولعٌ بالجمال ومهتمّ بالشكل فحسب، بل لأنّه يقدّم الذوق على النقد. يقول: «معظم النقد يقوم على الذوق، لذلك لا يُنتفع بالنقد»[20]. وإذا كان البرناسيّون قد برعوا في فنّ الشعر الوصفيّ، فإنّ شعر الأمين شعر التأنّي والتأنّق والخَلق التصويريّ والدقّة التعبيريّة. ومن يقرأ دواوينه الثلاثة (دفتر الغزل، والديوان الجديد، وليالي الرَّقمتَيْن) يلحظ احتفالاً بالطبيعة وبالمرأة، فلا غلوَّ إن أطلقنا عليه شاعر الوصف وشاعر الغزل.
إنّ غزل أمين نخلة ماديّ يعرض للمرأة وكأنّها تمثالٌ من رخام. يتغزّل بحُلاها وزينتها حتّى غدت القصائدُ لديه معارضَ زينة وتبرّج. وهو يرينا جمال المرأة من خلال هندامها، ثمّ ما يكون طيَّ هذا الهندام من إغواء. يقول في قصيدة «المشط»[21]:
يا مشطُ، هذا شَعرُ واحدةِ النِسا *** أرخى ضفائرَه إليك وأسلسـا...
يُهنيك يا مشطُ الجمالَ سلاسلاً *** والمسكَ شمّاً والحريرةَ مُلْمَـسا
ما بين سـالفةٍ ودورةِ وجنـةٍ *** لمّا تركتَ الورد جئتَ النرجـسا...
يا مشطُ، خفّفْ من غلوّك واتّئدْ *** فالحليُ والقصبُ المحبّرُ وسوسـا
لبسـتْ أحبَّ مطارفٍ وقلائدَ *** فكأنّ غصنَ الروض أورقَ واكتسى...
المشط في حقيقة أمره موضوعٌ غير ذي قيمة شعريّة، ولكنّه في القصيدة يحمل بعداً جديداً إذ يعبّر عن نفسيّة المرأة وولعها القديم بالتسريحات منذ «مستشزرات»[22] امرئ القيس حتّى آخر صرعات القرن الواحد والعشرين. والشاعر يخاطب المشط ويشخّصه، فيناديه ويغار منه ويراقب حركاتِه حركةً حركة، محاولاً أن يستقصيَ كلَّ جوانب الصورة. وحقّ لمارون عبّود أن يقول: «إنّ أمين نخلة يُحسن التجسيد»[23].
وفي قصيدة «المِعْطف»[24] جوانبُ أخرى من الصياغة الفنيّة:
بيَ المحبوبةَ السـمراءَ *** يا بُنّ اليمانيـــنا
فمُ الإبريقِ أم فمُهــا *** أضاع الرأيَ ساقينا
وفتُّ المسـكِ بالكفَّيْن *** أم جرّت فساتيــنا
وشهرُ النَّوْر والبستانِ *** أم حلّت بواديـــنا
بروحي مِعْطفَ الديباجِ *** والديباجَ والليـــنا
وما مسّــتْ بطائنُه *** وما دارت به حيـنا
وما يُخفـيه من كتبٍ *** ولا يُخفي العناويـنا
وما في طاعة الأزرار *** من حُكمٍ جرى فيـنا
وما بالصدرِ من أثمارِ *** وَشْيٍ كدن يهويــنا
عنـاقيــــدٌ ودحرجةٌ *** فيا عنباً ويا تيــنــا
هذه القصيدة لوحةٌ رائعة يرسمها أمين نخلة بريشة الكلمة والحرف. ولا يخفى أنّ المعطف هو الذي راح يستثير الشهوة، وأنّ في بوح الشاعر الكثير من التشهّي المستتر خلف غلائلَ من نور. لكنّ أسلوب الشاعر الجزل الرصين نأى به عن الابتذال والإسفاف. وفي هذه القصيدة شيءٌ من ابن الروميّ القائل:
أجنتْ لك الوجدَ أغصانٌ وكثبانُ *** فيهنّ نوعان: تفّاحٌ ورمّانُ[25]
أمين نخلة والتراث الشعريّ العربيّ
وإذا كان في نثر أمين نخلة «لغة الجاحظ وابن المقفّع وعبد الحميد وابن خلدون»[26]، فإنّ في شعره ألواناً من أبي نؤاس وبشّار بن بُرد وابن زَيْدون وابن الروميّ؛ فقصيدته «مرثيّة الحبيب»[27] ومطلعها:
عيني مع الدنيا وقلبي معكْ *** ما ضيّع العهدَ ولا ضيّعكْ
تذكّرنا قصيدةَ ابن زَيْدون:
ودّعَ الصبرَ محبٌّ ودّعكْ *** ذائعٌ من سرّه ما استودعكْ[28]
وقصيدته «آخر العرس»[29] ومطلعها:
أصبحتُ في همّ وفي يأسِ *** من هذه الدنيا ومن نفسي
تذكّرنا قصيدةَ البحتريّ السينيّة الشهيرة:
صنتُ نفسـي عمّا يدنّس نفسي *** وترفّعت عـن جـدا كـلّ جِبْــــــــسِ
وتماسكتُ حين زعزعني الدهرُ *** التماساً منه لتعسي ونكسي[30]
وقصيدته «في الشباب»[31] التي يقول فيها:
جاد فابتسم *** والهوى نِعَمْ
كرمه جنى *** دنّـه كـرَم
تذكّرنا قصيدةَ أبي نواس:
حاملُ الهوى تَعِبُ *** يستخفّه الطربُ
إن بكى يحقّ له *** ليس ما به لعبُ[32]
و«قصيدته السوداء»[33] التي يقول فيها:
لا تعجّل، فالليل أندى وأبردْ *** يا بياضَ الصباح والحسنُ أسودْ
ليلتي ليلتان في الحَلَك الرط *** ب فجنحٌ مضى وجنحٌ كأن قدْ...
تعيد إلى ذاكرتنا بيتَي بشّار:
وخذي ملابسَ زينةٍ *** ومُصبَّغاتٍ فهـذا أفخرْ
وإذا خرجتِ تقنّعي *** بالحُمْر إنّ الحُسْنَ أحمرْ[34]
وأمين نخلة، في كلّ ذلك، من أبلغ مَن عبّر ومن أقدر مَن عالج اللفظة وركّب العبارة وأخرج الصورة. فهو يُكدّ الخاطر ويُجهد القريحة بحثاً عن اللفظة المناسبة والقافية المطابقة، ممّا جعل مارون عبّود يقول فيه بظرفه المعهود: «إنّ شاعرنا لَشاعر محكِّك، وربّما ظلّ يفتّش عن كلمة من الحَوْل إلى الحَوْل. هو كاهن فنّ مولع بالكلمات فيعقد بينها برباطٍ مقدّس فيكون زواجاً مباركاً لا يعقبه طلاق»[35].
وخلاصة القول في غزل أمين نخلة، إنّ المرأة عنده بنت الحياة تفرض وجودها وتثبت شخصيّتها وتؤكّد كيانها بحسنها وجمالها، فيحترمها الرجل من دون أن ينجرف مع تيّار العاطفة الجامحة. ولقد عبّر عن ذلك كلِّه بعبارةٍ رزينة ولفظةٍ متخيّرة وأسلوبٍ رصين.
أمّا فنّ الوصف فالأمين شبيهٌ فيه بابن الروميّ: إن تغزّل وصف، وإن مدح وصف، وإن رثى وصف. وهو في شعره الوصفيّ كما في شعره الغزليّ، لا يُرسل الكلام على عواهنه، بل يُحكم نسج قصائده، وهو لا يطلق العَنان لخياله، بل يَلجمه كما يَلجم عاطفته، وهو دائماً ذو نزعةٍ عقليّة متأنيّة، وقد يكون اشتغاله بالقانون أحد الأسباب التي قادته إلى تلك النزعة لما يتطلّبه ذلك من سعيٍ إلى الحقيقة، بأناةٍ وصبرٍ وهدوء، بعيداً عن الانفعال وعن التوتّر والشطط في التفكير[36]. اقرأ مثلاً كيف يصف صوت «موسى المغنّي»[37]:
يصبّ في الروح أم يلألئ أم *** يـنشرُ فيه روائحَ الزهرِ...
إذا الندامى في لونه اختلفوا *** فقيلَ من أزرق ٍ ومن أخضرِ
قلنا لهم: حسْبُكم منازعةً *** ورجمَ ظنّ في المطلب العَسِـرِ
يسعى الشاعر إلى تجسيم الصوت فيجعله ذا شكل ورائحة ولون ولا يترك فرصةً للتخيّل. فيذكّرنا ابنَ الروميّ ووصفَه صوت «وحيد المغنّية»:
فيه وَشْيٌ، وفيه حَلْيٌ من النغــ *** مِ مصوغٌ يختال فيه القصيدُ[38]
واقرأ وصفه خطّ «حامد»[39] وهو النابغة التركيّ في الخطّ العربيّ، الذي لانت بين أصابعه اللغة وأضحى شعره خطّاً وتصويراً خالصَيْن:
إذا ألِفاتُ الضادِ لاحت قدودُها *** بدا في قدود الغِيدِ قالٍ وحاسـدُ
وفي نُقَط الثاآت غمزٌ محبّبٌ *** وفي الغين غنجٌ فهي غيداءُ ناهدُ
واللهِ كم في السين رَوْحٌ لمقلّةٍ *** لها من تعـاريجٍ هناك وسـائدُ
وليس التجسيم وحدَه ما يطبع وصف أمين نخلة بطابعه، بل التدبيج أيضاً أو التلوين[40]. ومثَلُنا الأبرز على التدبيج قصيدة «الشلّال»[41]:
طاولِ الهضب يا عمودَ المــاء، *** وتمايلْ بالقامة الهيفـــاء
يا أبا الأخضرِ المخطَّطِ في السهل، *** كتخطيطِ مِعطفِ الحسناء
يا أبا الأزرق المصفِّـق في النهـر، *** لرقصِ الشـعاعِ في الأفياء
مِنّـةٌ أنت من حيــاةٍ، وخصْــــبٍ، *** سقطتْ من علٍ على الأوداء
تــنسج الخصـب للمـروج رداءً، *** ليت لي منك فضلَ ذاك الرداء
وأنا ابنَ الغمام، مخضوضرُ الذهن، *** وإن كنتُ ساكنَ الصحــراء...
شلّال نخلة ملوّن أجمل تلوين: الأخضر السندسيّ، والأزرق اللازورديّ، والأبيض الفضيّ، بل إنّه ملوّن بألوان قوس الغمام السبعة الفاتنة. لقد تحوّل الشلّال إنساناً يخاطبه الشاعر وينعته أجملَ النعوت. ووصفه الشلّال بيانٌ محسوسٌ ومرئيّ، لا ينهض به خيالٌ مجنّح.
والطبيعة لديه ليست كطبيعة الرومنسيّين ملجأً وموئلاً وهروباً من المجتمع للانطواء على الذات ومناجاتها، فهو لا يرى الطبيعة مكتملة الجمال إلّا بالوجود الإنسانيّ. وإذا كان الخريف فصلاً أصفر ورمزاً إلى الكآبة والموت، فإنّ الشاعر عرف كيف يرى فيه شبهَ ابتسامة تخفّف من وطأة الحزن والسويداء. قال في «أشجار الخريف»[42]:
حبّاً لأشجار الخريف وما بها *** من رجْفِ أوراق ٍ وعُرْي غصونِ
وإذا أتـتك بخُضرةٍ فكأنّهـــا *** شـبهُ ابتسـامٍ في فــم المحــــزونِ
هذا هو أمين نخلة: شاعر يحتفل بالصياغة الفنيّة؛ فيتخيّر الألفاظ، ويجسّم المعاني، ويشخّص الموضوعات، ويلوّن الصور. «إنّه سيّد الصياغة بلا منازع»[43]. ولذلك، من المستحيل أن نترجم شعر الأمين من دون أن نُفقده روعته ونذهب برُوائه.
أمين نخلة ناثراً
ولا يسعنا ونحن نستعرض مظاهر الصناعة الفنيّة في شعر الأمين إلّا أن نعرّج قليلاً على الصناعة الفنيّة في نثره لأنّ «أمين نخلة إمامٌ في الصناعتين، وهو شاعرٌ في نثره كما هو شاعرٌ في شعره»[44].
ولعلّ كتاب المفكِّرة الريفيّة (1942)، أهمّ كتبه النثريّة وأشهرها، يوضح صياغته الفنيّة. وهو في نثره متأنّقٌ كالوجيه الغطريف! قال يصف فراشةً بيضاء: «تحطّ وتنهض، ولا حطّت ولا نهضت بل جاءت في سياق الهواء... ويا لطف مقامها بين ورقتَيْن! تسأل حينئذٍ نفسك: أخضراء أو بيضاء. ونباتٌ بروح أو روح بنبات؟»[45]
وفي نثره تشخيص؛ فكأنّك أمام كائنات حيّة لها وجودُها الخاصّ وكيانُها المستقلّ. قال يصف الإبريق: «على ذِكرك الشهيّ تقوم القيامة في ضمير العطش، وفي طلّتك اللؤلؤيّة ترقص الأحشاء... يتصبّب ويلتمع فإذا أقبل حسبت أنّه يهرول إليك في حين أنّك أنت تهرول»[46].
وفي نثره تدبيج؛ فهو لا يفتأ يلوّن المشاهد بالألوان المختلفة حتّى تشعر وكأنّك أمام لوحة لا ينقصها من الخطوط خطّ. يصف الحبر قائلاً: «الحبر نورٌ أسود وكنزٌ سائل... وخير المِداد الأسود فهو خبز الجميع. أمّا ما كان منه أحمرَ باحراً أو أصفرَ وارساً أو أخضرَ حانئاً...»[47].
هذه العناية الفائقة باللغة والأسلوب دفعت شاعراً «أصوليّاً» كحافظ ابراهيم إلى القول: «أدب أمين نخلة شكّ لؤلؤ»[48]. وآخر: «كأنّه ممّن يطالع معاجم اللغة، فيفاجئك بالكلمة التائهة في بطون الكتب المطويّة ويبرزها لك»[49].
لقد كان أمين نخلة في شعره والنثر صاحبَ مدرسة دُعيت باِسمه: «مدرسة أمين نخلة»[50]. وراح طلّاب هذه المدرسة يحاكون أسلوب الأمين الفصيح ويتأنّقون في النظم، بل إنّ بعضهم تأثّر بنظريّاته في الفنّ والأدب والاجتماع كنظريّته في اللفظ والمعنى والقديم والجديد والذوق والنقد... ونحن، في هذا المقام، نتّفق مع الناقد عبده وازن في حاجة النثر النخليّ (ولمَ لا الشعر أيضاً؟) إلى مقارباتٍ نصيّة حديثة تستند إلى مناهج الأسلوبيّة والشكليّة[51] لكشف أسراره وطرائفه، والإلمام بخصائصه الفريدة[52].
أمين نخلة طليقاً
وبعد، فعلينا ألّا نغالي في وَسْم أمين نخلة بِسِمَة البرناسيّة وألّا نختمه بخاتمها لأنّه لم يفقد أصالته، ولأنّنا نعثر في ثنايا دواوينه على لمعاتٍ رمزيّة ولمحاتٍ رومنسيّة وسماتٍ كلاسيكيّة. وليس هذا بمستغرب ما دام الشعر كائناً حيّاً تحتشد فيه الطبيعة والحياة فلا يُقاس ولا يوزن، وما دامت النظريّات مذاهبَ وأغراضاً لا تعيش إلّا على هامش الأدب. إنّ المدارس الشعريّة سجون، ونظريّاتها قيود، والشاعر لا يمكنه أن يعيش في جوٍّ من العبوديّة والاختناق. يقول في «الشعر»[53]:
الشـعر زادُ القلبِ متعةُ لهـوِه *** والرأيُ يأخذ منه حَسوةَ شاربِ
أنا لو سُئلتُ لقلتُ في تعريفـه: *** طربٌ يهزّك كالغناء الصاخبِ
لم تدرِ مِن أيّ الجهات أتاك، هل *** مِن ملئه أم مِن جَمال القالبِ؟
دعْ كلّ ما فصّلوا في وصـفـه *** ما بين مشـتطٍّ يقول وناكبِ.
د. جوزف لبُّس
-------------------
* متخصّص بالآداب العربيّة. أستاذ في الجامعة اللبنانيّة، وجامعة القدّيس يوسُف – بيروت.
[1] شهادات ورسائل (بيروت، دار الجديد، ط1، 2003)، ص89-90.
[2] محمّد غنيمي هلال، الأدب المقارن (بيروت، دار الثقافة، ط3، 1962)، ص90.
[3] Paul Valéry, Tel Quel I (Paris, Pléiade, 1960), Œuvres II, p. 478.
[4] صلاح لبكي، لبنان الشاعر (بيروت، مجد، ط1، 1982)، ص155 و246.
[5] يوسف الصميليّ، الشعر اللبنانيّ – مذاهب واتّجاهات (بيروت، دار الوحدة، ط1، 1980)، ص293.
[6] لبكي، م. س.، ص288.
[7] مارون عبّود، مجدّدون ومجترّون (بيروت، دار مارون عبّود ودار الثقافة، ط5، 1979)، ص52.
[8] لبكي، ص289.
[9] جبّور عبد النور، المعجم الأدبيّ (بيروت، دار العلم للملايين، ط2، 1984)، ص50.
[10] إحسان عبّاس، فنّ الشعر (عمّان، دار الشروق، ط4، 1987)، ص52؛ فيليب فان تيغيم، المذاهب الأدبيّة الكبرى في فرنسا، ترجمة فريد أنطونيوس (بيروت – باريس، منشورات عويدات، ط3، 1983)، ص263، 265.
[11] يقول الشاعر الفرنسيّ تيودور دو بانفيل: «عندما ينتهي الشاعر من قنص الطيور، يستعمل إزميل النحّات». أنظر قصيدته «إلى تيوفيل غوتيه» في: Les cariatides (Paris, Jules Tardieu, 1864), p. 301.
[12] ذكره نزار قبّاني في مقدّمة ديوانه طفولة نهد (منشورات نزار قبّاني، ط23، 1989)، ص12-13.
[13] لمزيد من التوسّع والتفصيل في البرناسيّة تاريخاً ومبادئ، راجع:
Yann Mortelette, Histoire du Parnasse (Paris, Fayard, 2005); Le Parnasse. Mémoire de la critique (Paris, PUPS, 2006).
[14] الديوان الجديد (بيروت، دار الكتاب اللبنانيّ، ط1، 1962)، ص297. وانظر أيضاً قصيدة «إلى شوقي»، ص172.
[15] المفكِّرة الريفية (بيروت، دار الكتاب اللبنانيّ، ط1، 1967)، ص11.
[16] تحت قناطر أرسطو (بيروت، مجد، ط1، 1982)، ص151.
[17] م. ن.، ص185.
[18] ن.، ص235-236.
[19] الديوان الجديد، ص162.
[20] المفكِّرة الريفيّة، ص80.
[21] دفتر الغزل (بيروت، دار الكتاب اللبنانيّ، ط2، 1968)، ص57.
[22] «غدائره مستشزرات إلى العلا» أي مفتولاتٌ إلى فوق. اُنظر ديوان امرئ القيس، تحقيق أبي الفضل إبراهيم (دار المعارف بمصر، ط5، 1990)، ص17.
[23] عبّود، م. س.، ص53.
[24] دفتر الغزل، ص70.
[25] ديوان ابن الروميّ، تحقيق حسين نصّار (القاهرة، دار الكتب والوثائق القوميّة، ط3، 2002)، 6/2419.
[26] المفكِّرة الريفيّة، قول إدوار حنين، ص153.
[27] دفتر الغزل، ص47.
[28] ديوان ابن زيدون ورسائله، تحقيق علي عبد العظيم (دار نهضة مصر، 1957)، ص167.
[29] الديوان الجديد، ص275.
[30] ديوان البحتريّ، تحقيق حسن كامل الصيرفيّ (القاهرة، دار المعارف، ط3، 1963)، 2/1152.
[31] دفتر الغزل، ص115.
[32] أبو نواس في نوادره وبعض قصائده، إعداد سالم شمس الدين (صيدا – بيروت، المكتبة العصريّة، ط1، 2010)، ص88.
[33] دفتر الغزل، ص42.
[34] ديوان بشّار بن بُرد، تحقيق محمّد الطاهر ابن عاشور (القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1966)، 4/61.
[35] عبّود، ص65. قال أمين نخلة نفسُه في المفكِّرة (ص77): «في الفنّ لا يُمسح القلم من شيء، فلو رُدّ شكسبير إلى الحياة، لاستأنف النظر في هملت نفسِها».
[36] الصميليّ، م. س.، ص306.
[37] الديوان الجديد، ص108.
[38] ديوان ابن الروميّ، 2/763.
[39] الديوان الجديد، ص121.
[40] التدبيج التزيين. وفي البديع، هو إلحاق الألوان بالطباق، وذكرها في سبيل التورية والكناية. أنظر: ابن حِجّة الحَمَويّ، خزانة الأدب وغاية الأرَب، تحقيق عصام شعيتو (بيروت، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1987)، 1/156؛ 2/453.
[41] الديوان الجديد، ص90.
[42] ن.، ص97.
[43] لبكي، ص289.
[44] حنّا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربيّ - الأدب الحديث (بيروت، دار الجيل، ط1، 1986)، ص522.
[45] المفكِّرة الريفيّة، ص42.
[46] م. ن.، ص46-47.
[47] ن.، ص13-14.
[48] ن.، صفحة الغلاف الأخير.
[49] ن.، قول توفيق وهبه، ص174.
[50] ن.، قول ألبير أديب وقول إدوار حنين، ص146 و153.
[51] الأسلوبيّة (Stylistique): منهجٌ علميّ يهتمّ بدراسة الأسلوب الأدبيّ، ويكشف خصائصَه الفرديّة الفنيّة التي تميّز نصّاً أدبيّاً عن نصّ آخر غير أدبيّ، وكيفيّةَ تأثيره في المتلقّي. والشكليّة (Formalisme) مصطلح نقديّ أدبيّ يهتمّ بالشكل، أي بمظاهر العمل الأدبيّ التركيبيّة، ويتناغم مع نظريّة الفنّ للفنّ. وكلمة شكل أعمق دلالةً من كلمة أسلوب وأعمّ. وفي حين تُلغي الشكليّة من التحليل شخصيّةَ المبدع وبهجةَ التعبير الجماليّ، فإنّ الأسلوبيّة تتمتّع بالنصّ بناءً مقصوداً وترحّب بوجود المبدع.
[52] أنظر مقالته: «أمين نخلة أمير النثر العربيّ... بلاغةً وتجديداً» في جريدة الحياة (الأحد، 25 مايو/ أيّار 2014).
[53] الديوان الجديد، ص321.